د. الراوي:ولاية الفقيه أودعت جبروتها في وعاء التأويلات ليكون مرشدها نائباً لله

د. الراوي:ولاية الفقيه أودعت جبروتها في وعاء التأويلات ليكون مرشدها نائباً لله

الأحد 24 يوليو 2011 – 04:11

د.عبد الستار الراوي مستقبل ولاية الفقيه  »منطق الفكر واستراتيجية العمل« أكد د.عبدالستار الراوي أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة بغداد سابقا وآخر سفير عراقي في إيران قبل الاحتلال، أن ولاية الفقيه أودعت جبروتها في وعاء التأويلات الذاتية ليكون مرشدها نائباً عن الله ووكيلاً للسماء، مشيراً إلى أن الخميني فيما يبدو لم يعرْ اهتماماً إلى المأزق الديني، الذي انتهى إليه، موضحاً أنه لم يجد غضاضة في كونه مجتهداً أن يبسط ولايته الإلهية على النحو الذي يشيع من خلالها دعوى النبوة المفتوحة واستمرارية الرسالة عبر مطلقات ولايته السياسية الجامعة المانعة للعلم الإلهي وللرسالة المحمدية ولتراث أئمة البيت النبوي، مبيّناً أن حكومة ولاية الفقيه هي حكومة ثيوقراطية لا تخضع لسلطان الأمة ولا تجوز محاسبة زعيمها الروحي، بل إن مثل هذه الحكومة مثل الوصي مع الأطفال، موضحاً أن ذلك يعد عودة صريحة إلى نظرية ”الحكم بالحق الإلهي المطلق”، مؤكداً أنه لم يعد مسموحاً لمواطن إيراني مستقل أن يجرؤ على معارضة الآباء الجدد القائمين على الحكم والأوصياء على البشر، وإلا فإن رصاص الحرس الثوري سيسقط رأسه فوراً.

 وأشار د.عبد الستار الراوي، في القسم الثاني من دراسة حول ”مستقبل ولاية الفقيه (منطق الفكر واستراتيجية العمل)”، أعدها خصيصاً لـ”الوطن”، إلى أن الفقيه الإيراني، كما نص في كتابه، هو الجامع للكليات ”الإلهية والنبوية والأئمة من البيت النبوي” من حيث (سياسة المجتمع والعقيدة الدينية). أي إن حاكمية الفقيه لم تعد ”نيابة خاصة” عن (الإمام الغائب) فالنص ينصرف بمبناه ومعناه إلى ما وراء الإمام ”المهدي” وعبر الإمام الإيراني عن ذلك بوضوح لا يقبل الشك ولا يحتمل التأويل، فالتنظيم السياسي الرسمي الذي أنشأه باسم (الحزب الجمهوري الإسلامي) نص على أن ”آيات الله” هم المقيمون على القانون والحكمة الإلهية -إنهم القرآن الناطق- وبصفتهم هذه فهم بالضرورة، معصومون عن الخطأ، والطاعة لهم واجبة، وهي واجب مقدس.

 وتنشر ”الوطن” القسم الثاني من نص الدراسة التي أعدها د.عبد الستار الراوي حول ”مستقبل ولاية الفقيه (منطق الفكر وإستراتيجية العمل)”.

 (1) إن الإرادة الشعبية العامة وحدها التي تقرر الشكل السياسي للسلطة، وهي نفسها من يختار الحاكم الأعلى للدولة، وتحملت الأمة هذه المسؤولية في العهد النبوي الشريف وتحملتها في عهد الراشدين، (1) فاختارت الخلافة شكلاً للسلطة واتخذتها لا كأداة للتشريع أو للاجتهاد، بل كأداة لتنفيذ الشرع أو القانون الذي يجتهد فيه المجتهدون (2) والخليفة قد يكون مجتهداً وقد لا يكون، فلا يخرج عن كونه واحداً من المجتهدين، ولا يخرج عن كونه مسؤولاً عن اجتهاده، وكما كان للمسلمين بعد العهد النبوي حرية اختيار شكل الحكم الذي يتفق مع عادتهم ومصالحهم، ودرجة تطور مجتمعهم، فإن لهم أن يختاروا اليوم أيضاً أشكال الحكم التي تتفق مع تقاليدهم وعاداتهم وخصوصية مجتمعاتهم مادام هذا الاختيار لا يتنافى مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها (3) فالمرجع في اختيار نظام دون آخر مرتبط بالضرورة بإرادة الأمة أي (إجماعها)، وإذا تعذر الإجماع فللسواد الأعظم، أي لأكثرية أبنائها دونما إكراه أو وصاية.

 وفي ضوء ذلك تتبدى حقيقة جوهرية، وهي أن إسلام العقل الحرية هو المعبر عن الإرادة العامة، المستجيب لدواعي الزمان والمكان وسنة التطور، والقادر، في الوقت نفسه، على حفظ الحقوق ورعاية المصالح، والإسلام في هذا المجال ينطلق من الواقع المتعين، لذلك لا يقبل تفريغه في وعاء الكهانة أو ذوبانه في المطلقات الغامضة.

 وبهذا أيضاً يتضح المعنى بين ما هو ثابت وما هو متغير، فالإسلام كتشريع خاص بالعبادات كما نص القرآن عليه، حق ثابت لله وحده، ويصلح عقيدة دائمة لكل زمان ومكان. أما الإسلام كشريعة إنسانية (المعاملات وما دخل فيها في القانون الخاص أو العام) فهو مسؤولية الأمة، يرتبط بمقاييس النسبية والتغيير والصيرورة في الزمان والمكان”.

 (3) مثلما حاول الإمام الخميني تحديث بعض المعاني الدينية، فإنه لجأ أيضاً، إلى استعارة بعض الألفاظ العرفانية للتعبير عن رؤيته الحلولية المتفجرة، وذلك عن طرق قياس النص الآتي (4): .. (للرسول، كل ما لله في سياسة المجتمع وعقيدة أهله، وبعد الرسول كل ما للإمام، وبعد غيبة ”الإمام المهدي” فإن كل ما للإمام الذي هو كل ما لله والرسول للفقيه العادل). وعبر هذا الجمع الميكانيكي بين (كيفيات الألوهية، النبوة، الإمامة) والتي ادخرها الإمام الخميني، لتسويغ مشروعه السياسي، تبرز أمامنا النتيجة الآتية: (تولي الفقيه لأمور الناس انصياع لأمر الله(5)

 . ويترتب على هذه النتيجة: التزام الطاعة المطلقة للفقيه بحكم مركزه المقدس الجامع لكمالات (الله والرسول والأئمة). بعد أن فوض الأمر إلى شخصه نيابة عن الله والنبي والأئمة، فهو المؤتمن الأوحد على الإسلام والمسلمين، وهو الأعلم بأمور الدين والدنيا، وحجة الله على العالمين! فالفقيه الإيراني، كما نص في كتابه، هو الجامع للكليات ”الإلهية والنبوية والأئمة من البيت النبوي” من حيث (سياسة المجتمع والعقيدة الدينية).

 أي إن حاكمية الفقيه لم تعد ”نيابة خاصة” عن (الإمام الغائب) فالنص ينصرف بمبناه ومعناه إلى ماوراء الإمام ”المهدي” وعبر الإمام الإيراني عن ذلك بوضوح لا يقبل الشك ولا يحتمل التأويل، فالتنظيم السياسي الرسمي الذي أنشأه باسم (الحزب الجمهوري الإسلامي) نص على أن ”آيات الله” هم المقيمون على القانون والحكمة الإلهية إنهم القرآن الناطق(6) وبصفتهم هذه فهم بالضرورة، معصومون عن الخطأ، والطاعة لهم واجبة، وهى واجب مقدس.

 وإزاء ذلك يتسامى الفقيه الحاكم على صفته البشرية، مرتقياً منزلة العصمة، متعالياً عن الخطايا والأخطاء، فلا يقرب ذنباً كبيراً ولا صغيراً، فلا يصح ولا يجوز على من جعل من نفسه وكيلاً لله والنبي والإمام. الغفلة والنسيان، وكائن بهذه المنزلة الرفيعة لابد أن يكون مؤلهاً ـ كلماته فيض رباني ”وقراراته إلهامات تمليها السماء، وعكس الدستور الإيراني جانباً من هذه الصورة المؤلهة، عبر صلاحياته الطليقة.. ووحدانية قيادته التي لا تقبل المراجعة ولا تخضع لنقاش. مثل هذا القدر من القداسة يفضي بالحتم والضرورة إلى مبدأ ”الحلول” (7) فحينما يحلّ الله في ”الشخص” يعنى أن المطلق يحل في النسبي ويمتزجان معاً، وينجم عن هذا أن يفقد (المطلق) سموه ووجوده كمثل أعلى، كما يفقد (النسبي) حدوده الفيزيائية والإنسانية في الزمان والمكان، فيصبح كائناً متألها فوق الطبيعة وقوانينها، متعالياً على التاريخ والإنسان.

وينتهي الأمر إلى القول بتجسد المطلق في الفقيه.

ومن هنا فإن هذه الفكرة تفترض التوحد بين الخالق والمخلوق، بخلاف بديهيات المنطق الإسلامي القائمة على التمييز الجلي بين ما هو مطلق وبين ما هو نسبي.  فالإسلام يفصل فصلاً ميتافيزيائياً بين الإلوهية وبين العنصر البشري، إذ لا يمكن أن ينزل الإله فيصير كائناً بشرياً، ولا بمقدور الإنسان أن يكون إلهاً، من هنا كان لابد من وساطة بين الله والنبي تكون حاملة أسمى الكمالات فتمثلت هذه الصلة بــ(الوحي) ليكون وسيطاً من الله إلى النبي ”ص”(8)

 يبدو أن الإمام الخميني لم يعر اهتماما إلى المأزق الديني، الذي انتهى إليه، بعبارة أخرى: لعله لم يجد غضاضة في كونه مجتهداً أن يبسط ولايته الإلهية على النحو الذي يشيع من خلالها دعوى النبوة المفتوحة واستمرارية الرسالة عبر مطلقات ولايته السياسية الجامعة المانعة للعلم الإلهي وللرسالة المحمدية ولتراث أئمة البيت النبوي.(9). والخميني هو القائل: (لقد جاء الأنبياء جميعاً من أجل إرساء قواعد العدالة لكنهم لم ينجحوا حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية.. لم ينجح في ذلك…(10)

 وهكذا أودعت الولاية جبروتها في وعاء التأويلات الذاتية ليكون مرشدها نائباً عن الله ووكيلاً للسماء ”فهي حكومة ثيوقراطية: لا تخضع لسلطان الأمة ولا تجوز محاسبة زعيمها الروحي، بل إن مثل هذه الحكومة مثل الوصي مع الأطفال” وفي هذه القضية بالذات عودة صريحة إلى نظرية ”الحكم بالحق الإلهي المطلق(11). فلا وجود لأحد سوى (الفقيه) القائم بالامر في هذا العصر، لا ينازعه في ولايته المؤلهة أحد في (الحق الإلهي) الذي انتزعه انتزاعا بـ(مقبولة عمر بن حنظلة) و(مشهورة بن خديجة)، وهما روايتان يتيمتان التقطهما الإمام الخميني من متون يصعب التحقق من مرجعيتها.. وهو تأكيد آخر للنزوع الذاتي في بنية الولاية الإيديولوجية ومحاولة للاحتفاظ بالدولة تحت دكتاتورية طبقة اللاهوت إلى الأبد. (12) ، وقد أفضت أقوال الفقيه بقداسة رجال الدين إلى إحكام قبضتهم على السلطة والمجتمع، وأصبحوا الطبقة الأولى اقتصاديا واجتماعيا، ومن حق هذه الطبقة وحدها الإستئثار بالسلطة الزمنية، علاوة على مقامهم الروحي الذي ينفردون به في إسباغ بركاتهم على الرعية. فلم يعد مسموحا لمواطن إيراني مستقل أن يجرؤ على معارضة الآباء الجدد القائمين على الحكم والأوصياء على البشر، وإلا فإن رصاص الحرس الثوري سيسقط رأسه فوراً..

 وقد شهد العالم كله ما أحدثته بنادق الولاية وأسلحة الباسيج من المذابح في احتجاجات صيف 2009 والتي عرفت بمجزرة محرم.. وقد حدث الأمر الوحشي نفسه في شهر فبراير من العام 2011 وهكذا تعززت سلطة طبقة الفقهاء النبلاء، رعاة المصير الدنيوي والأخروي، وبفضل سلاح المطلقات الخمينية ورصاص الحرس الثوري، تم اختزال النظام الإسلامي بحلقاته التاريخية ومسمياته السياسية كلها في تجربة حكومة الفقيه، بقطع الصلة، مع تقاليد العقد والبيعة والشورى والإجماع، فالفقيه لا الأمة، والولاية ؛ لا الخلافة، واللاهوت المسلح؛ لا الناسوت الإنساني، والنيابة الإلهية الخالدة؛ لا السلطة الزمنية، والإمام المقدس الأوحد، ولي أمر العباد والبلاد، لا يستقيم دين ولايقام عدل إلا بوجوده، وهو الوارث للنبوة، والحاضر عن الغائب. والقائم عن القاعد.

 وقد أودع الإمام الخميني هذه الخصائص وأحكامها كلها لمريديه وحوارييه من الآيات العظام، وقد نال فضلة من إشراقاته الروحية تلميذه الأثير السيد علي خامنئي، لكن الأخير استبق معلمه وتفوق عليه في مقام الولادة المباركة عندما أجرى الله معجزة النطق على لسانه، فنزل من بطن أمه وهو يهتف باسم الإمام الجليل منادياً: (يا علي.. ياعلي)!! طبقا لما أورده إمام جمعة قم السيد محمد سعيدي بتاريخ )15/4/2011(. أصبحت القداسة الخمينية في الألفية الثالثة وعصر المعلوماتية من بديهيات الواقع الإيراني، وامتدت تداعياتها السياسية إلى مراكز تصدير الفوضى الولائية في لبنان والعراق. وغيرهما من أقطار الوطن العربي، وإذا كان الأول أقام محميته الإيرانية المسلحة باسم (الله) فإن الفقيه الآخر أفتى بعدم جواز منازعة (المحتل الأمريكي) فكرم سماحته بلقب: (فقيه المنطقة الخضراء)، فلا قرار رئاسياً يبت فيه، ولا وزارة تؤلف، ولا برلماناً يعقد إلا بعد الرجوع إلى الوكيل الإلهي الإيراني، للوقوف على رأيه، والأخذ بتوجيهاته والإذعان لأوامره، فكان لحكومات الاحتلال الخمس أباً روحياً ولأحزاب المحاصصة ولياً مرشداً، والقرب من سماحة السيد بمنزلة العبادة، والولاء له شرط الإيمان. أما الاجتماع المباشر بسماحته والتبرك بأنواره الربانية فهي أمنية لا تدرك ولا ينال شرف المثول بين يديه إلا ذو حظ عظيم.

 (3) في إدراكه لأوليات المعرفة الدينية وأصولها العامة، يلتقي الإمام الخميني مع معظم التيارات والمدارس الفكرية في التراث والتاريخ الإسلامي (31) لكنه عاد ليقرر أموراً ومواقف، ينفرد بها الغلاة الذين يتفقون مع الفقيه الإيراني في رؤيتهم التأليهية للإمامة، ويشتركون معه في الطبيعة الثيوقراطية للسلطة السياسية، لقيادة الدولة وبسط نفوذها على المجتمع بصفتها أمراً من اختصاص السماء، ونفي مبدأ ”الأمة مصدر السلطات”، إذ يرى أن طبيعة السلطة في المجتمع هي طبيعة دينية، وينكر من ثم أن يكون لجماهير المسلمين حق التشريع القانوني، أو أن يكون لها رأيها في السياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها، أو أن تكون الأمة صاحبة الرأي في توجيه السلطة ورسم سياساتها. ذلك كله رفضه الفقيه الإيراني استنادا إلى موقفه ذي البعد الواحد، الذي يرى في ”الولاية” ظاهرة مسوغة لوجودها مكتفية بذاتها، وثمة حتمية إلهية توجب قيامها عبر تمثلها للإسلام ”نظاماً سياسياً به تشريع قانوني كامل وجاهز” فهي ليست بها حاجة إلى قانون آخر سوى قانون السماء، وليس لها قائد غير الفقيه الممثل الأوحد للسماء فتكون الولاية نائبة عن الله لا عن جماهير المسلمين، ومن ثم لا تكون الأمة مصدر السلطات.

 هذا هو موقف الخميني الذي يرفض أن يكون للأمة رأي أو أن تكون صاحبة قرار في أمر الحكومة الإسلامية، كما يرفض ولاية الأمة على نفسها مصراً على قيمومة الفقيه المطلقة من دون اعتبار لمصالح الأمة وحقها في الدفاع عن مصالحها، والتعبير عن رأيها.(14)

 وفي هذه القضية يتقاطع الإمام الخميني، مع الفقه الإسلامي بمدارسه وتياراته كلها، هذا الفقه الذي يعد الأمة مصدر السلطات جميعاً، والذي يوجب أن تكون الدولة نائبة عن الشعب وممثلة لمصالح مواطنيه، قائمة على التنوع والتفاعل والتعدد، بالضد تماماً من أيديولوجية اللاهوت المتجبر، مع تأكيد بشرية الحاكم الأعلى سواء كان إماماً أم فقيهاً أم مواطناً عادياً، يجمع على أهليته الناس، ذلك أن الشريعة كانت دائماً إلى جانب (الفعل الإرادي الحر) في إقامة مملكة الإنسان بما يوافق بيئته وعصره. ومن هذا تصبح الدولة دولة في الزمان والمكان تعيش داخل التاريخ لا خارجه، وفي قلب الواقع وليس في السماء(15)

إن ”مملكة الخميني” أو”ولاية الفقيه” التي قيدها بسلسلة من الدعاوى اللاهوتية الشائكة، جعلته يضع قيم الدين الإنسانية ونضارته التشريعية في وعاء قديم محافظ يمثل خطراً عظيماً على المحتوى الموضوع فيه. وتلك قضية تمثل تناقضاً صريحاً لا يستقيم بين الأهداف والمضامين الدنيوية التي رآها الخميني وأدرك أولياتها في الإسلام وبين الأداة المعادية بالطبع والصيرورة لهذه الأهداف والمضامين. وفي هذه القضية قبل غيرها تتمثل سلبية الفكر الإيراني وأحادية نظرته، وعدم تقدم تجربته فيما بعد، بل وتتضح الثغرة العميقة التي يحفرها النظام الإيراني بيديه كل يوم والتي من الممكن أن يسقط في هوتها إلى الأبد. (4) تحت وطأة الاستبداد البهلوي، كانت جماهير إيران ترقب ”المخلص” الذي سيبعث به الله، أو يعجل بظهوره قانون تراكم الظلم.

 إلى جوار التقاليد الدينية ذاتها التي تسمح بظهور التنبؤات (المهدوية) (16) التقط الفقيه الإيراني بذكاء التوق الشعبي كله، ليعيد صياغته على نحو مبتكر، فيضعه في دائرة الأمل الإنساني، بحيث يتواصل والتوقعات الجماهيرية ويستجيب لطموحها، إذ لم يعد مجدياً في رأيه أن يتحدث بلغة نهاية التاريخ، أو انتظار قدرية النهايات السعيدة.  لذلك كان عليه أولاً أن يمهد لفكرة إقامة (الولاية) أن يغامر، متجاوزاً عودة الإمام من غيبته الكبرى، كشرط حتمي لإقامة دولة العدل العالمية، ولعل الخميني الفقيه الوحيد الذي تمكن من اجتياز المسافة الفراغية من الواقع إلى نهاية التاريخ، وقد أجمل ذلك كله في عبارة واحدة، لم تزد على عشرين كلمة، (فقد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقضي المصلحة قدوم المنتظر (17)

تُرى ما البديل.. الحل هو أن يقدم على إحداث الانقلاب شبه الشامل في فلسفة الانتظار، فيحول الرؤى السلبية الهائمة إلى وقائع صلبة تلك الرؤى المعذبة، كانت عادة ما تنتهي بالإخفاق فيدفع الإيرانيون ثمناً غالياً عقب كل فشل، ليكن ”المخلص” إنساناً متعيناً، وبشراً سوياً، بدأ الخميني من خارج الوطن، هناك في المنفى المترامي في (النجف) جوار مرقد إمام المتقين، بدأ يبث كلماته المفعمة بالعاطفة الثورية، وفي هذه القضية بالذات لم يكن الخميني يتحدث ليشيع أملاً عديم اللون غير قابل للتحقق، بل نجح في إقامة الجسر الذي يعبر فوقه إلى قلوب الشعوب الإيرانية ووجدانها الديني عبر صوته الملئ بنبرة الاحتجاج والتحريض والثورة.. فكانت خطبه ورسائله تذاع على أشرطة التسجيل في عموم مدن إيران وأقاليمها(18) فيتحول (المجرد) لدى المتلقي إلى (مشخص) ويصير (الغائب) (حاضراً)، و(الأمل) المجرد يستحيل إلى (واقع) ملموس، وعلى هذا النحو من التواصل أفاق الشعب الإيراني من أزمنة الانتظارات، التي انشغل بها مترقباً الخلاص لسنوات طويلة، بعد أن عبر صوت الخميني الحدود حاملاً رسائل الأمل، من النجف وباريس، فقد آذن الوقت وحان موعد عودة (الفقيه الإمام الغائب). وهكذا غادر التاريخ الإيراني منطقة الغيبة الكبرى، ليبدأ مرحلة التحقق القوي والحضور الميداني، بعد أن رفعت الثورة قبضتها في وجه ملك الملوك، حاملة في ذاكرتها الحلم التاريخي بالحرية الذي انبثق لأول مرة في مشروطية الدستور ,1906 سبعون عاماً من الانتظار المهين، قبل أن يضع الشعب الإيراني في شتاء 1979 خاتمة النهاية للإمبراطورية البهلوية.

 المــــــراجـــــــع

 (1) راجع حسن صعب. تحديث العقل العربى. دار العلم للملايين بيروت ص17-18

(2) أنظر محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد (مرجع سابق) ص27

(3)تحديث العقل العربى. مصدر سابق ص 112- 113

(4) الإمام الخميني. ولاية الفقيه. ص43

(5) حول النيابة العامة وتفاصيلها. يراجع القريشى (مصدر سابق).

(6) صادق روحانى (حيث) صحيفة الأنوار البيروتية العدد 11/2/1979 نقلاً عن محمد أحمد السامرائي: الأحزاب والحركات السياسية في إيران (1950 1978) رسالة ماجستير الجامعة المستنصرية 1980

(7) حول هذا المصطلح ووراء استخدامه وتوظيفه، وأهدافه في الفكر الإسلامي (الكلامي والفلسفي (24) راجع عبد الله سلوم. الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية. بغداد 1972

(8) راجع عبدالستار الراوي. العقل والحرية. (الفصل الخاص بالنبوة).

(9) أنظر وقارن المصدر السابق..

(10) كلمة الإمام الخميني بمناسبة ذكرى مولد الإمام المهدي 15 شعبان 1400هـ

(11) راجع محمد عمارة. الفكر القائد (مصدر سابق) ص .39

(12) راجع تصريحات الإمام الخميني. لصحيفة فرانس سوار. نوفل لوشانو 17/10/1978 نقلاً عن إيران على مفترق طريق المصير. (بغداد 1982).

(13) حول (الغلاة) أنظر. الغلو والفرق الغالية. مصدر سابق.

(14) محمد عمارة، الفكر القائد (مصدر سابق) ص 39 40

)15( أنظر وقارن. مقدمة أولى في الإيديولوجية الإيرانية (مصدر سابق).

(16) أنظر وقارن: على الشابي. الشيعة في إيران. تونس 1980 ص 161

(17) الدكتور كامل الشيبى الفكر الشيعى والنزعات الصوفية. بغداد 1966 ص .429 ,352 ,290 ,92 ,62 ,58 ,57 ,55 ,23

(18) الإمام الخميني. ولاية الفقيه. ص57

أضف تعليق